الجمعة، 14 يناير 2011

بيت لحم

بيت لحم

في بيت لحم أديرة كثيرة،وهو أمر متوقع في مكان ولد فيه السيد المسيح.والأديرة هذه تنتمي إلى طوائف دينية شتى،وتعكس بعض التنوع الذي عرفته المؤسسات الدينية في الأقطار الأوربية منذ أن جعل الإمبراطور قسطنطين النصرانية دين الدولة والناس في القرن الرابع للبلاد.وهي في تواريخها تعكس كذلك الصراعات الطويلة التي عرفتها المذاهب المسيحية فيما بينها عبر القرون-صراعات كانت العوامل القومية فيها لا تقل فاعلية عن العوامل العقائدية،هذا فضلا عن الصراع القديم بين الشرق والغرب،وبخاصة بين العرب وأوربا،لفترة طويلة من الزمن .وهي فترة تدخل فيها غلبة العرب على البيزنطيين ،وإخراجهم من فلسطين وسوريا ولبنان ومصر وشمال أفريقيا ،كما تدخل فيها الحروب الصليبية بعد ذلك بحوالي قرون ثلاثة،زهي التي انتهت بخروج القوى الأوربية من فلسطين وسوريا لحوالي سبعمائة سنة،قبل أن تعود مجددا في صيغة أخرى،صيغة الانتدابين البريطاني والفرنسي بنهاية الحرب العالمية الأولى عام ۱۹۱۸ .
غير أن الصلة الدينية مع "الأرض المقدسة" بقيت قائمة،بشكل أو آخر ،ورتبت في أنساق متباينة عبر القرون الأربعة التي حكم فيها العثمانيون فلسطين،وهي أنساق كانت فيها القوى الكبرى أطرافا دائمة،من روسيا القيصرية(التي اعتبرت نفسها خليفة بيزنطية في الاستمرار "بالإمبراطورية الرومانية المقدسة")إلى انكلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا (ولكل منها مؤسساتها الدينية) والسلطة العثمانية نفسها،التي كانت تقر بهذه الأنساق على نحو تتجنب به اندلاع الصراع المسلح حول هذه المؤسسات.غير أن اندلاع الصراع خارج فلسطين،بقي أمرا واردا بين حين وآخر،وظهر على أشده(مع تعقيدات سياسية كثيرة لم تكن المسألة الدينية إلا عنصرا واحدا من عناصرها )في حرب القرم،في منتصف القرن الماضي،بين الروس من ناحية ،والعثمانيين والإنكليز والفرنسيين من ناحية أخرى.وعندما جاء الإنكليز إلى فلطين باسم الانتداب،تمسكوا بمبدأ"القديم على قدمه"-ولكن فيما يخص المؤسسات الدينية فقط ،لسوء الحظ،ولسوء النية،معا.
في أوائل العشرينات من هذا القرن، كانت الأديرة المهمة التي تعطي بيت لحم الكثير من شخصيتها العمرانية والاجتماعية هي أديرة الروم الأرثودوكس،المتمثلة بشكل رئيسي في القسم الأصلي من كنيسة المهد التي شيدها الإمبراطور قسطنطين عام ۳۲۶ م فوق المغارة التي ولد فيها السيد المسيح،وأديرة الفرنسيسكان ،المتمثلة في دير نجمة الشرق (وكان الأهلون يسمونه "دير شرقا")،وهو كنيسة القديسة كاترين، اللاصقة بكنيسة المهد،وفيها المغارة التي عاش فيها القديس جيروم حين أكب على ترجمة الكتاب المقدس إلى اللاتينية في أواخر القرن الرابع للميلاد،وأديرة الساليزان،وأكبرها دير بني في القرن الماضي على مرتفع يبعد قليلا عن كنيسة المهد،يدعى دير دون بوسكو،ولكن الأهلين يعرفونه باسم "دير أبونا أنطون".
والفرنسيسكان يمثلون نظام الرهبنة الذي أنشأه القديس فرنسيس الأسيسي،وهو في الأغلب فرنسي الطابع واللغة،رغم كون مؤسسة إيطالية في الأصل. في حين أن السالزيان يمثلون فئة إيطالية من الرهبان أسها أنطونيو دي ساليز في أواسط القرن التاسع عشر.وكانت هناك بالطبع فئات مسيحية أخرى ،لها كنائسها صغرت أم كبرت، كالروم الكاثوليك،والسريان الأورثودوكس،والسريان الكاثوليك،والأرمن،والبروتستانت اللوثريين،وغيرهم.ولكل من هذه الأديرة والكنائس مدارسها،رغم بدائية الكثير منها يومئذ،غير أنها على الأقل عممت أوليات القراءة والكتابة على الجيل الذي بدأ ينشأ في مستهل العشرينات من هذا القرن.
وكان من أجمل ما حققته بعض أديرة الراهبات الكاثوليك،مدارس ابتدائية للبنات(كانت ولا ريب من أولى المار المخصصة للإناث في العالم العربي).وكانت الطالبات فيها يلبسن الزي الموحد الأنيق-وكان في الأغلب مزيجا من الأسود والأبيض،ربما بإيحاء من مسوح الراهبات-فتكتسب شوارع بيت لحم بهجة خاصة،كلما انتشرت فيها ساعة الغداء،أو ساعة انتهاء الدوام المدرسي عصرا،أو كلما انتظمن صفوفا متجهة إلى إحدى الكنائس أيام الآحاد والأعياد.ورغم التأكيد على اللغة الفرنسية في هذه المدارس فإن الوقت كان قادما ،وبسرعة،حين يتحول التأكيد إلى اللغة العربية.
كانت مؤسسات الروم مازالت تنم عن الأثر اليوناني فيها ،باستعمال اللغة الإغريقية في الصلاة ،أما المؤسسات الكاثوليكية ،فرنسية كانت أم إيطالية،فكانت لغة التعبد فيها اللاتينية،بحيث كان الكاثوليك العرب من أهل بيت لحم يسمون باللاتين ،وكانت الفئات الدينية الأخرى تستعمل لغاتها الخاصة في صلواتها هي أيضا.غير أن الشعور القومي الذي كان قد اشتد بالتعبير عن نفسه منذ أواسط القرن الماضي جعل المسيحيين العرب يصرون على إدخال المزيد من العربية في هذه الصلوات جميعا ،وشهدت العشرينات والثلاثينات تعريب معظم خدمات القداس في فلسطين كلها-ولو أن اللاتينية واليونانية بقيتا مكرستين في الكثير من الأديرة القديمة الكبرى إلى جانب اللغة العربية .كما بقيت اللغة السريانية تمازج العربية:وكان هذا حالها منذ أكثر من ألف سنة ،وكان الدير الذي يحفظ لهذه اللغة استمرارها قائما في مدينة القدس القديمة،وهو دير مار مرقس ،الذي يعود بتاريخ تأسيسه إلى القرن الخامس أو السادس الميلادي،ويفخر بأنه مبني على أنقاض أقدم منه للكنيسة التي أنشأها "مار مرقس " في المكان الذي تناول فيه العشاء الري الأخير،عشية صلبه.
كان المسلمون المقيمون آنذاك في بيت لحم نفها أقل عددا من المسيحيين بكثير،وكانوا في معظمهم ينتمون أصلا إلى بعض القرى المجاورة،وكان معظمهم ينتمي إلى عشيرة شبه بدوية أخذت تستقر شيئا فشيئا في مضاربها شرقي بيت لحم ،عشيرة بني تعمر.وقد أدت بهم مصالحهم المعيشية مع سكان البلاد إلى تحويل خيامهم إلى منازل حجرية، وأقام الكثير منهم فيما بعد في بيت لحم نفسها.وكان جامع بيت لحم ،المطل على ساحة باب الدير،معلما قديما مهما من معالم البلدة،يعود تاريخه إلى العهد العثماني،ولعله في الأصل يعود إلى ما هو أقدم من ذلك بكثير.
وكان الفقر المدقع الذي عصف بفلسطين في أواخر القرن التاسع عشر سببا في هجرة أعداد كبيرة من شباب بيت لحم إلى أقطار أمريكا الجنوبية،وأمريكا الوسطى.وزادت الحرب العالمية الأولى من فقر الأهلين و بؤسهم.وكان أثر الهجرة باديا بوضوح.في مطلع العشرينات،في خلو الكثير من البيوت و المباني من أصحابها،وفي حالة الإهمال أو التداعي التي تعاني منها مئات المنازل والكروم المحيطة بالبلدة.
غير أن بيت لحم كحاضنة لمهد المسيح أعطاها تميزا من نوع فريد،وهيأ لعدد كبير من أهلها موردا سياحيا من الصناعات اليدوية المقرونة بمقدسات المسيحيين والمسلمين.فكانت تستورد كميات كبيرة من الأصداف الخام،لتحولها في عشرات من "الورش" الصغيرة ،المنبثة في الشوارع الرئيسية،إلى مسابح وصلبان ومصغرات لكنيسة المهد وقبة الصخرة،إضافة إلى العلب والأطر النفيسة التي كانت ترصع بالصدف،ويقبل على شرائها الزوار الأجانب.ولكن لم يكن في البلدة كلها فندق واحد ،ربما لقربها من مدينة القدس .وإذا اضطر الأجانب إلى الإقامة ليلتين أو ثلاثا فيها،حلوا في نزل خاص بهذا الدير أو ذاك.(وبقي الأمر كذلك حتى أواخر الخمسينات.)
وكان التميز الآخر سوق السبت فيها.فهي مركز من المراكز القديمة جدا للبيع والشراء وتبادل السلع لمنطقة كبيرة جنوبي القدس،إذ يجتمع آلاف القرويين والبدو كل يوم سبت-بدءا باعات الفجر-في سوقها المشهورة،التي كانت تسمى،لسبب ما ،بسوق البلاعة،ثم سميت رسميا بعد إعادة تنظيمها بسوق البلدية.كان يوم السبت يوما أشبه بالمهرجان،تمتلئ فيه طرقات البلدة بالوافدين،من باعة ومشترين.أما السوق فيختلط البشر فيها بالأغنام والماعز والخيل والحمير والجمال،بكثافة تكاد تكاد تجعل السير من خلالها مستحيلا.وتختلط سلال البيض والدجاج بسلال الخضار وأكياس القمح والشعير والذرة والتبن،وتنكات الدبس والعجوة و"الكبة"،والزيت والمن والسيرج.والكثير من الباعة والمشترين من النساء،بفساتينهن الزرقاء والخضراء والحمراء والفضفاضة،وتطريزاتها الزاهية المنوعة،وهن يملأن الجو بالصيحات والضحكات التي تضيف وهجا خاصا إلى هذا المهرجان الأسبوعي.بل إن أشهر المسيطرين على السوق،أيام طفولتي،كانت امرأة قوية الشخصية من عائلة "قراعة"،قوامها ضخم ،وصوتها كالرعد ،وتتصرف في المكان تصرف المستبد العادل،ويرجعون إليها عند تفاقم المشكلات.والويل لمن لا يرضى بحكمها من لسانها اللاذع!
في هذا اليوم الواحد كانت حوانيت البلدة تكسب ما لا تكسبه طوال أيام الأسبوع الأخرى:إنه يوم البقال،والحلاق،والمبيض،والسمكري وبائع الحلاوة الطحينية(التي يشتريها الوافدون القرويون بكميات كبيرة)،وصانع الجلود-وكان من حرفيي البلدة البارزين.ويتنوع ما يصنعه:من "الوطأ"(وهو أقرب في شكله إلى الخف العربي القديم ،ولكنه مصنوع ببساطة وخشونة تجعلانه شديد التحمل،وأثيرا لدى أفراد العشائر)،إلى أحزمة الرصاص،والروج،وأرسان الخيل والحمير.
وكان حرفيو الجلود يتاجرون أيضا بالخناجر من مختلف الأحجام والأشكال.ولن تجد بدويا أو شبه بدوي لا يعلق برسغه نبوتا مرصع الرأس بالرصاص والمسامير، ولا يضع في وسط حزامه "شبرية" يحتمي بها ساعة الحاجة ،بقدر ما يتباهى بها.وهو حالما يرفع النبوت أو يشهر الشبرية على أحد يقع في أيدي الشرطة،وينتهي به الأمر إلى "نقطة البوليس "بساحة باب الدير وما يلحق ذلك من تعقيدات القضاء و"الصلحة"و"العطوة"، التي قد تجرجر به وبأهله أشهرا لا تنتهي
‍‍‍‌!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بحث مخصص